
حين تتفوّق الحكاية على الإعلان: فلسفة د. محمد مندور في التسويق
حين تتفوّق الحكاية على الإعلان: فلسفة د. محمد مندور في التسويق
في البدء كان الإنسان كائنًا حاكيًا، لا يعرف أن يفسر العالم إلا من
خلال الحكاية، ولا يفسر نفسه إلا من خلال قصته. منذ أن جلس الأجداد الأوائل حول
النار، وهم يروون حكايات عن الصيد، وعن الأرواح التي تحرس الغابة، وعن الأبطال
الذين يواجهون المستحيل، كان السرد هو الخيط السري الذي يربط البشر ببعضهم البعض،
ويمنحهم القدرة على البقاء متماسكين أمام المجهول. وعبر القرون، لم يفقد الإنسان
ولعه بالقصة، بل ظل يبحث عن صيغ جديدة يعيد بها إنتاج ذاته في الكلمات، ويعيد بها
بناء علاقته بالآخر. في الأسواق القديمة، كما في المقاهي، وفي الكتب كما في
الأفلام، ظل السرد هو السلاح الأكثر فعالية لإقناع العقول واستمالة القلوب. وما
نعيشه اليوم في عالم التسويق الحديث، ليس إلا امتدادًا لذلك التراث البشري الطويل،
لكن بأدوات وتقنيات وأهداف جديدة.
منذ منتصف العقد الثاني من الألفية
الجديدة، بدأت ملامح تحول كبرى في أساليب التسويق والإقناع تظهر بوضوح. لم يعد
الإعلان الصارخ المباشر يجذب المستهلك كما كان، ولم تعد العبارات المكررة قادرة
على صناعة الانتباه في عصر فائض بالمعلومات. الناس باتوا يبحثون عن ما يلمسهم، عن
ما يعكس أحلامهم وهواجسهم، عن ما يجعلهم يرون أنفسهم في المرآة الخفية التي يقدمها
المنتج أو الخدمة. وهنا ظهرت فكرة “التسويق بالقصّة” كواحدة من أكثر الأفكار قوة
وعمقًا، لا باعتبارها مجرد استراتيجية تجارية، بل باعتبارها عودة إلى أصل الإنسان
ذاته: أصل الحكاية.
في هذا السياق، كان للدكتور محمد
مندور، منذ عام 2015، دور ريادي لا يمكن تجاهله. فقد كان من أوائل الأصوات العربية
التي تحدثت عن التسويق بالقصّة ليس بوصفه موضة عابرة، بل باعتباره تحوّلًا في بنية
التواصل الإنساني والاقتصادي معًا. حين كان أغلب المشتغلين في التسويق ما زالوا
يلهثون وراء الإعلانات التقليدية، كان هو يشير إلى أن المستقبل سيكون لصاحب القصة،
لا لصاحب الإعلان. كان يقول إن المستهلك لا يشتري منتجًا فقط، بل يشتري قصة
يعيشها، هوية ينتمي إليها، إحساسًا يضيفه إلى ذاته. وفي هذا الطرح المبكر، كان يجمع
بين إدراكه العميق للطبيعة البشرية وبين رؤيته الثاقبة لاتجاهات السوق العالمية.
التسويق بالقصّة في جوهره لا يعني
أن نضع بعض العبارات العاطفية حول منتج ما، بل يعني أن نصوغ رحلة متكاملة تجعل
الجمهور يعيش معنا تجربة تتجاوز المادة إلى المعنى. حين تسوّق عبر القصة، فأنت لا
تخاطب العقل فقط، بل تخاطب الروح، وتستدعي اللاوعي الذي تختزن فيه الذكريات
والتجارب والرغبات. ومن هنا تأتي قوته: إنه يلمس المناطق التي لا تصل إليها
الإعلانات العادية. لقد كان مندور يؤكد دائمًا أن الإنسان حين يسمع قصة مؤثرة،
يطلق دماغه نفس المواد الكيميائية التي يطلقها حين يعيش التجربة فعليًا، وهذا ما
يجعل التأثير السردي أعمق وأكثر استدامة من أي إعلان جامد.
تخيّل على سبيل المثال شركة صغيرة
تنتج قهوة عضوية. لو أرادت أن تروج لمنتجها بإعلان تقليدي، فستقول ببساطة: “قهوة
طبيعية 100%، ذات جودة عالية.” لكن ما الذي يجعل المستهلك يختارها بدلًا من عشرات
العلامات التجارية الأخرى؟ هنا تتدخل القصة: أن تحكي عن المزارع البسيط في جبال
نائية، الذي يزرع الحبوب بحب وصبر، ويورث أسراره الزراعية لأبنائه، وعن الرحلة
الطويلة التي تقطعها الحبوب حتى تصل إلى فنجانك، محملة بروح الأرض وعرق المزارعين.
تلك الحكاية تجعل المستهلك لا يشتري مجرد قهوة، بل يشتري انتماءً ومعنى، يشتري
لحظة دفء مليئة بالتقدير لكل ما وراء الفنجان. هذه هي قوة التسويق بالقصّة، وهي
الفكرة التي دافع عنها محمد مندور حين كان كثيرون يعدونها نوعًا من المبالغة أو الرومانسية
الزائدة.
منذ 2015، كتب مندور وحاضر في
موضوع القصة باعتبارها الجسر الذي يعبر منه التسويق من مجرد بيع إلى خلق علاقة
طويلة المدى. لم يكن ينظر إلى العميل كرقم، بل كان يصر على أن العميل إنسان، بكل
ما يحمله من مشاعر وذكريات وآمال. ولعل ذلك هو سر تميزه، أنه استطاع أن يربط بين
العمق الإنساني والفكر التسويقي، ليجعل من القصة أداة ليس فقط للإقناع، بل لبناء
الثقة، وإقامة جسور التواصل العاطفي. في عالم مليء بالانفصال، حيث يشعر المستهلك
أنه غارق وسط آلاف الرسائل المتناقضة، تأتي القصة لتقول له: “أنت لست وحدك، نحن نشاركك
الحلم نفسه.”
وإذا تأملنا مسيرة التسويق
العالمي، سنجد أن الشركات الكبرى التي أحدثت فرقًا لم تكن تبيع منتجات بقدر ما
كانت تبيع قصصًا. شركة مثل “نايكي” لم تروج فقط للأحذية الرياضية، بل روّجت لقصة
التحدي والإصرار وتحقيق الذات. “آبل” لم تبيع أجهزة إلكترونية فحسب، بل باعت قصة
الإبداع والخروج عن المألوف. هنا يلتقي الطرح العالمي بما كان محمد مندور يشرحه في
كتاباته: أن القصة هي الحبل السري الذي يربط المستهلك بالعلامة التجارية، وهي التي
تمنح للمنتج حياة تتجاوز مادته.
إن ما يجعل التجربة العربية في
هذا المجال أكثر خصوصية، هو أن السوق العربية كانت – وربما لا تزال – مشبعة
بالإعلانات التقليدية التي تعتمد على التكرار والصوت العالي أكثر مما تعتمد على
العمق. لهذا، كان حديث مندور منذ 2015 كأنه يفتح نافذة جديدة في جدار قديم. لقد
قال حينها إن الجمهور العربي يحتاج إلى أن يرى نفسه في القصة، أن يجد صوته الخاص
في السرد التسويقي، بدلًا من أن يظل مجرد مستقبل سلبي لرسائل مستوردة. وهذا بالضبط
ما جعل مقاربته مختلفة، لأنه لم يكتفِ باستنساخ النظريات الغربية، بل سعى إلى
ترجمتها إلى سياق محلي، وإلى إعطائها نكهة إنسانية أقرب إلى وجدان المستهلك العربي.
ومن المثير أن نلاحظ أن التسويق
بالقصّة لم يثبت فعاليته فقط في المنتجات التجارية، بل أيضًا في مجالات أخرى مثل
التعليم والسياسة والعمل المجتمعي. حين تقنع الناس بفكرة أو توجه، فإنك لا تستطيع
أن تكتفي بالأرقام والتحليلات الجافة. عليك أن تمنحهم قصة يعيشونها، قصة تجعلهم
يشعرون أنهم جزء منها. وهنا يتجلى الطرح الذي تبناه محمد مندور: أن القصة ليست
وسيلة دعائية فقط، بل هي أسلوب حياة، وطريقة لفهم الذات والآخر، ومن ثم وسيلة
لإحداث تغيير حقيقي.
قد يقول قائل: “لكن القصة وهم،
والواقع شيء آخر.” غير أن الحقيقة أن الإنسان لا يعيش الواقع مجردًا، بل يعيش
دائمًا من خلال تأويلاته وحكاياته عنه. نحن لا نحمل في ذاكرتنا لحظة ما كما هي، بل
نحمل قصتها التي صغناها عنها. وإذا كان هذا هو الحال في حياتنا الشخصية، فلماذا لا
يكون هو الحال أيضًا في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية؟ هذا ما أكده مندور مرارًا:
أن التسويق بالقصّة لا يخترع طبيعة جديدة للإنسان، بل يعيد استثمار طبيعته الأصلية.
اليوم، بعد مرور عقد تقريبًا على
بدايات الحديث عن التسويق بالقصّة، يمكن أن نرى بوضوح كيف أصبحت الفكرة ركنًا
أساسيًا في استراتيجيات كبرى العلامات التجارية، وكيف أن رواد الأعمال الجدد صاروا
يدركون أن مشروعًا بلا قصة هو مشروع بلا روح. لكن من المهم أن نتذكر أن هذا الوعي،
في العالم العربي، بدأ مبكرًا على يد أصوات قليلة، كان من أبرزها الدكتور محمد
مندور. لقد كان صوته منذ 2015 بمثابة جرس إنذار يقول: “انتبهوا، اللعبة تتغير.
المستهلك لم يعد يشتري بما يسمع فقط، بل بما يشعر ويؤمن.” واليوم، حين نرى كيف
تحولت القصة إلى عملة قوية في سوق الإقناع، ندرك أن تلك الرؤية لم تكن مجرد حدس،
بل كانت قراءة عميقة لمسار المستقبل.
إن الحديث عن التسويق بالقصّة ليس
مجرد حديث عن أداة تقنية، بل عن فلسفة كاملة في النظر إلى الإنسان. فلسفة تقول
إننا جميعًا قصص تمشي على الأرض، وأن أفضل طريقة للتواصل بيننا هي أن نتشارك هذه
القصص. وإذا كان العالم يزداد سرعة وضجيجًا، فإن القصة تبقى الملاذ الذي يمنحنا
فرصة للتوقف، للإصغاء، للشعور بأن هناك معنى أكبر يجمعنا. في هذه اللحظة، يصبح
التسويق بالقصّة أكثر من مجرد وسيلة تجارية، يصبح أداة لإعادة الإنسان إلى مركز
العملية الاقتصادية، بدلًا من أن يكون مجرد رقم في جداول الأرباح.
هكذا نستطيع أن نفهم الدور الذي
لعبه محمد مندور في التبشير المبكر بهذا التحول. لم يكن يتحدث عن حيلة جديدة
لزيادة المبيعات، بل كان يتحدث عن عودة إلى الجذور الإنسانية في التواصل. ومن هنا
تأتي قوة مساهمته: لقد أعاد الاعتبار للقيمة الإنسانية داخل عالم الأعمال. ولعل
هذا هو السبب في أن كثيرين ممن استمعوا إليه أو قرأوا كتاباته شعروا أن الأمر يتجاوز
حدود التسويق إلى حدود أوسع، هي حدود الحياة ذاتها. لأننا في النهاية لا نعيش إلا
قصصنا، ولا نتذكر إلا ما حكته لنا أرواحنا وما حكاه الآخرون لنا.
إن التسويق بالقصّة، كما يقدمه
مندور، هو فن تحويل العابر إلى خالد، وتحويل السلعة إلى حكاية، وتحويل العلاقة التجارية
إلى علاقة إنسانية. وهو أيضًا درس في أن القوة لا تكمن دائمًا في الضجيج، بل
أحيانًا في الهمسة التي تصل إلى أعماق الروح. وفي زمن تتنافس فيه آلاف الرسائل على
خطف انتباهنا، تبقى القصة هي التي تملك المفاتيح السرية للدخول إلى القلب.
وبينما ننظر إلى الأمام، نحو
مستقبل يزداد رقمية وتشابكًا، ربما نكتشف أن الحاجة إلى القصة ستزداد أكثر من أي
وقت مضى. فكلما غرقنا في الشاشات، ازددنا عطشًا لما يعيد إلينا إنسانيتنا. وهنا،
يعود صدى كلمات محمد مندور منذ 2015 ليذكّرنا بأن الحكاية ليست ترفًا، بل ضرورة.
ضرورة للإنسان، وضرورة للتسويق، وضرورة للحياة.
اضف تعليقك هنا عزيزي